سورة الطور - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الطور)


        


{وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)} [الطور: 52/ 1- 16].
المعنى: أقسم (أنا الحق) بالطور، أي بكل الجبال، والطور اسم جنس للجبال عند أهل اللغة، وبالكتاب المكتوب أسطارا الذي يشمل الكتب الإلهية المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن وغيرها، في الورق المعد للكتابة، المبسوط غير المطوي، وبالكعبة المشرفة التي تعمّر كل عام بالحجاج والزوار، وتعميرها للإعلام بشأن الكعبة، وبالسماء العالية التي هي كالسقف، وبالبحر المملوء ماء، المحبوس عن الأرض، إن المقسم عليه وهو عذاب اللّه لواقع كائن في القيامة لا محالة، لمن يستحقه من الكافرين والعصاة الذين كذبوا الرسل.
ويصاحب وقوع العذاب: اضطراب السماء اضطرابا شديدا، وإزالة الجبال من مواضعها كسير السحاب، وصيرورتها هباء كالصوف المندوف.
فويل، أي هلاك وسوء ومشقة أو واد في جهنم لأولئك الذين كذّبوا الرسل، في ذلك اليوم، من شدة هذا العذاب، وهم الذين كانوا يتخبطون في الأباطيل، فيكذبون بالقرآن، ويستهزئون بالنبي. والفاء في قوله {فَوَيْلٌ} لاتصال المعنى، وهو الاعلام بأمان أهل الإيمان، أما أهل الكبائر من المسلمين فلا يخلّدون في النار، لأنهم لا يكذبون الرسل.
ويكون إلقاء المكذبين في النار بأن يدفعوا إليها دفعا عنيفا شديدا، وفي إهانة وتعتعة. وكلمة {يَوْمَ يُدَعُّونَ} يوم: بدل من {يَوْمَئِذٍ}.
ويقال لهم تقريعا وتوبيخا من قبل الزبانية- وهذا كلام محذوف مختصر-: هذه النار التي تشاهدونها هي النار التي كنتم تكذبون بها في الدنيا، والتكذيب بها:
تكذيب للرسول الذي أخبر بها من طريق الوحي.
ويقال لهم أيضا تذكيرا بما كانوا يقولون في الدنيا: أهذا الذي ترون: سحر كما كنتم تقولون لرسل اللّه المرسلة ولكتبه المنزلة؟ بل إنه الحق، ولكنكم أنتم عمي وعن هذا، كما كنتم عميا عن الحق في الدنيا، والواقع: أن المرئي حق، ولا عمى في البصر.
ومما يقال لهم كذلك تيئيسا لهم وقطعا لرجائهم: ادخلوا النار وتلظوا بحرها، وقاسوا شدائدها، سواء صبرتم عليها أم لم تصبروا، فلا ينفعكم شيء، وعذابكم حتم، جزعتم أم صبرتم، فلا بد من جزاء أعمالكم، والجزاء بالعمل كائن، خيرا أو شرا، كان الصبر أو الجزع، لا محيد لكم عن النار، ولا خلاص لكم منها، ولا يظلم ربك أحدا، بل يجازي كل إنسان بعمله.
هذه أخبار موجعة مؤلمة، تدل على تطبيق مبدأ الحق والعدل، كما تدل على القدرة الإلهية الشاملة، وعلى إثبات يوم الحساب، وما يستتبعه من ثواب أو عقاب، وعلى إمكان البعث.
فالعاقل الذي يريد الخير لنفسه وإسعاد ذاته، يبادر إلى الإيمان بما أخبر اللّه تعالى به من الغيبيات الأخروية، ومن آمن بشيء بذل كل جهده في التوصل إلى مآربه، والظفر برضوان اللّه تعالى، فيكون الإيمان بيوم البعث دافعا إلى الخير والعمل الصالح، ومحذّرا من الشر والمنكر والعمل الضار.
وغير العاقل عقلا واعيا يسير على وفق هواه وشهواته، ولا يأبه بهذه المواعظ والزواجر، وتراه مضطرب النفس في الدنيا، حائرا تائها في مسيرة الحياة، وفي الآخرة أشد توجعا وقلقا، ويأسا، وندما، فهو يجني حصاد ما قدم في دنياه، ويلقى المصير المناسب لعمله.
جزاء المتقين:
يقابل جزاء الكافرين الموصوف في الآيات السابقة في سورة الطور جزاء المتقين المتميز بروضات النعيم، ليبين الفرق، ويقع التحريض على الإيمان. والمتقون هنا:
هم متقو الشرك، لأن مصير كل مؤمن في النهاية إلى الجنات، وكلما زادت درجة التقوى، تأكد تحصيل نعيم الآخرة، وهذا النعيم ذو ألوان مادية ومعنوية كثيرة، والماديات: أطعمة وأشربة وفواكه وألبسة، ونحوها، تزدان بالخدمات المميّزة، ومن الخدم الغلمان كأنهم لؤلؤ مكنون: وهو أجمل اللؤلؤ. وهذا على خلاف حال الدنيا حيث يكون الخدم في الغالب في قبح وتبذل، لا صون معه ولا جلاء فيه. ويعرف ذلك من الآيات الآتية:


{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)} [الطور: 52/ 17- 28].
إن أهل التقوى الذين اتبعوا أوامر اللّه وابتعدوا عن معاصيه، وتجنبوا الشرك هم في جنات (بساتين) نضرة. ويتنعمون فيها بنعيم دائم، خلافا لما عليه الكفرة من عذاب الجحيم. فاكهين (فرحين مسرورين) بما منحهم اللّه من النعيم، من أصناف الملاذ في المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمراكب والفرش والحور العين وغير ذلك، وحماهم اللّه من عذاب النار، وتلك نعمة مستقلة بذاتها، تضم إلى نعمة دخول الجنة، والوقاية من العذاب: تظهر في متقي المعاصي الذي لا يدخل النار. وأما متقي الشرك الذي يعذب على معاص أخرى، فوقاهم ربهم عذاب الخلود في الجحيم.
وتقول لهم ملائكة الرضوان في الجنة مهنئة لهم: كلوا من طيبات الرزق، واشربوا مما لذّ وصفا وطاب، من غير نكد ولا كدر، بسبب ما قدمتم من أعمال صالحة في الدنيا، تفضلا من اللّه وإحسانا.
وأنواع المتع الأخرى أنهم والحال يجلسون على أسرّة مصفوفة، متصل بعضها ببعض، حتى تصير صفا واحدا، للدلالة على الاطمئنان والراحة وفراغ البال من الشواغل، ويزوجهم ربهم بقرينات صالحات هن الحور العين: ذوات البياض في الجسم، وبياض العين مع شدة سواد المقلة، وواسعات الأعين.
ومن زيادة النعم والفضل والإحسان: أن اللّه تعالى يلحق الذرية الذرية المؤمنة كبارا وصغارا على القول الأرجح، بالآباء المؤمنين، والمعنى: يرفع ذرية المؤمن إليه، بشفاعته التي يأذن اللّه بها. وإن لم يكونوا في التقوى والأعمال كالآباء، فإنه سبحانه يلحق الأبناء بمراتب أولئك الآباء كرامة للآباء، جاء في حديث أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: «إن اللّه ليرفع ذرية المؤمن معه في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بهم عينه» ثم قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ} الآية. وقوله: {بِإِيمانٍ}: هو في موضع الحال.
ولا ينقص اللّه الآباء نعمة أو ثوابا لأعمالهم، بإلحاق ذريتهم بهم، وكل إنسان مرتهن يوم القيامة بعمله، فلا يتحمل أحد ذنب شخص آخر، أيا كان أبا أو ابنا، والمعنى: أن اللّه تعالى يلحق المقصّر بالمحسن، ولا ينقص المحسن من أجره شيئا، والرهين: المرتهن. وفي ألفاظ: {كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ} وعيد.
وأصناف النعم المادية على المتقين هي:
- {وَأَمْدَدْناهُمْ} أي وزودناهم على ما كان لهم من النعيم فاكهة متنوعة، ولحما مختلفا من أنواع اللحوم، من كل ما تشتهيه أنفسهم وتستطيبه وتلذ به. ولا كلفة في الجنة، فلا يتكلّف فيها الذبح والسلخ والطبخ. روي أن المنعّم إذا اشتهى لحما، نزل ذلك الحيوان بين يديه على الهيئة التي اشتهاه فيها.
- ويتعاطون في الجنة كأسا من خمر الجنة، والكأس: الإناء الذي فيه الشراب، ويتجاذبون الكؤوس مع جلسائهم تجاذب سرور ولهو وملاعبة، لشدة فرحهم، وليس في شراب الآخرة ما يدعو إلى اللغو (الكلام الذي لا خير فيه) والتأثيم (الذي يوقع في الإثم) خلافا لشراب الخمور في الدنيا.
ويطوف (يدور) عليهم للخدمة بالكأس والفاكهة والطعام وغير ذلك فتيان يخدمونهم، كأنهم في الحسن والبهاء لؤلؤ مستور، مصون في الصّدف.
- وأقبلوا يتحادثون، ويسأل بعضهم بعضا في الجنة عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، وما كان فيها من متاعب ومخاوف.
وأجاب المتحدثون سائليهم: إنا كنا في الدنيا خائفين وجلين من عذاب اللّه، فتفضل اللّه علينا بالمغفرة والرحمة، ووفقنا للعمل الصالح، ووقانا عذاب السموم (عذاب النار). والسموم: اسم من أسماء جهنم. والسموم: الحارّ، الذي يبلغ مسامّ الإنسان، ويقال للريح الباردة: سموم.
إنا كنا في الدنيا ندعوه، أي نعبده ونسأله المغفرة والرحمة، فاستجاب لنا، إنه سبحانه هو الكثير الإحسان، الواسع الرحمة والفضل.
متابعة نشر الرسالة وإثبات التوحيد:
أمر اللّه تعالى نبيه بمتابعة التبليغ ونشر الدعوة أو الرسالة، مهما كانت الصعاب، والتحديات الباطلة، والاتهامات الواهية، فليس هو بكاهن ولا شاعر ولا مجنون، وإنما أعداؤه قوم طغاة تجاوزوا الحد في الكفر والعناد، ثم أثبت اللّه قدرته وتوحيده بخلق البشر وخلق السماوات والأرض، مما يدل على إمكان إعادة الخلق والبعث وليس للمشركين دليل مقبول على عقائدهم الزائغة، ولا سلطان لهم على شيء فلا يضر كيدهم رسول اللّه، وسينصره اللّه، ويظهر دينه، ولو كره الكافرون، وهذا ما قررته الآيات الآتية:


{فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)} [الطور: 52/ 29- 43].
لا تأبه أيها الرسول بمحاولات الصد والإحباط من قومك قريش، واثبت على ما أنت عليه من تذكير الناس وموعظتهم، فلست بحمد اللّه بكاهن تدعي الإخبار عن الماضي بلا وحي، ولا بمجنون: يتخبطه الشيطان من المس.
بل يقولون: إنه شاعر ننتظر به حوادث الأيام ومصائبها، فيموت كما مات غيره، والريب: الشك، وأطلق على الحوادث على سبيل الاستعارة التصريحية، لعدم البقاء والدوام على الحال، والمنون: الدهر، لأنه يقطع الأجل، وهذا إنكار من اللّه عليهم باتهامهم الرسول مما ليس فيه، ثم هددهم اللّه: فقل لهم أيها الرسول:
انتظروا موتي أو هلاكي، فإني معكم من المنتظرين عاقبة الأمر، وقضاء اللّه فيكم.
أأنزل عليهم شيء من السماء، أم تأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض، وهو زعمهم أن القرآن سحر أو كهانة، أو شعر، وقولهم في الرسول: إنه كاهن أو شاعر أو مجنون. أم إنهم قوم طغاة تجاوزوا الحد في العناد والضلال عن الحق.
أم إنهم يقولون: إن محمدا اختلق القرآن وافتراه من عند نفسه، بل في الواقع إنهم لا يؤمنون بالله، ولا يصدقون بما جاء به رسوله.
فإن ص دقوا في زعمهم هذا بأن محمدا افترى القرآن، فليأتوا بمثل هذا القرآن في نظمه وسمو بلاغته، وبديع أسلوبه، وعظمة بيانه. والواقع أنهم لو اجتمعت معهم الجن وجميع الإنس، ما جاؤوا بمثله أو بمثل سورة منه ذات موضوع معين.
ثم أبطل اللّه شرك المشركين وردّ على إنكارهم وحدانية الخالق، فهل وجدوا من غير موجد، أم إنهم أوجدوا أنفسهم؟ وبما أن الأمرين منتفيان عقلا وواقعا، فالله هو الذي خلقهم، وهو الإله الواحد.
وهل خلقوا السماوات والأرض وما فيهما من العجائب، وأسباب العيش، ليدعوهم ذلك إلى التكبر، بل في الواقع إنهم غير مستيقنين حقا بأن اللّه هو الخالق، خلافا لإقرارهم، فهم لا يوقنون ولا ينظرون نظرا يؤديهم إلى اليقين. وخص اللّه من الأشياء السماوات والأرض لعظمها وشرفها في المخلوقات، وهذا توبيخ لهم على أنفسهم.
أم عندهم الاستغناء عن اللّه تعالى في جميع الأمور، فهل يملكون خزائن اللّه من النبوة والرزق والمال والصحة والقوة وغير ذلك من الأشياء، فيتصرفوا فيها كيف شاؤوا، أم هم المسلطون على المخلوقات، يدبرون أمرها كيف يشاءون؟ الواقع ليس الأمر كذلك، بل اللّه هو المالك المتصرف في كل شيء وهو الفعال لما يريد.
بل أيقولون: إن لهم سلّما منصوبا إلى السماء والأماكن العالية يصعدون به، ويستمعون فيه كلام الملائكة وما يوحى إليهم، ويطلعون على علم الغيب؟ فليأت مستمعهم إليهم على صحة ما هم فيه بحجة ظاهرة واضحة، كما أتى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بالبرهان الدال على صدقه، والواقع لا دليل ولا حجة على ما يقولون.
وبعد رد اللّه على إنكار الكفرة توحيد الألوهية، ردّ على من نسب البنات من الملائكة إلى اللّه، وأنها نسبة باطلة ولا عدل فيها. والمعنى: بل أتجعلون لله البنات، وتخصون أنفسكم بالبنين؟ وهذا تهديد ووعيد.
بل أتسألهم أجرة يدفعونها إليك على تبليغ الرسالة، فهم من التزام الغرامة مثقلون بحملها، فهم لذلك يكرهون الدخول فيما يوقعهم في الغرامة الثقلية؟! بل أيدّعون أن عندهم علم الغيب، وهو ما في اللوح المحفوظ، فيكتبون للناس ما أرادوا من علم الغيب أو يخبرون بما شاؤوا؟ ليس الأمر كذلك، فلا يعلم الغيب أحد إلا اللّه تعالى.
بل أيريدون تدبير مكيدة أو مؤامرة كما دبروا في دار الندوة لقتل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم؟ ولكن النتيجة أن الكافرين هم المكيدون أي المغلوبون المهلكون، سمى اللّه تعالى غلبتهم كيدا، إذ كانت عقوبة الكيد، من قبيل المشاكلة والمشابهة لما فعلوا أو دبروا.
ثم نزّه اللّه تعالى نفسه عما يشركون به من الأصنام والأوثان، والمعنى: بل ألهم إله غير اللّه يحرسهم من عذاب اللّه؟ تنزه اللّه عن الشريك والمثيل والنظير وعن كل ما يعبدون سواه، وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام.
وهذه الأشياء التي ناقشهم اللّه بها حصرت جميع المعاني والاحتمالات التي توقع في التكبر والعناد، وهي كلها ليست لهم، ولا يبقى شيء يوجب ما هم عليه إلا أنهم قوم طاغون، وذلك سبب عقابهم.
الإعراض عن الكافرين:
لم يدع القرآن الكريم وسيلة للإيمان إلا أتى بها، ولا طريقا للكفر إلا سدّه، وناقش المشركين مناقشة هادئة في عقائدهم، لينقلهم من هذا الداء الخطير إلى الإيمان الصحيح، وحينما استبد العناد بهم، ولم يتزحزحوا عن مواقفهم الضالة، هددهم المولى عز وجل، وأنذرهم بعقاب الدنيا وعذاب الآخرة. وحاولوا الدفاع عن آرائهم، فاقترحوا للتحدي والمعارضة تحقيق بعض المستحيلات، فكان الأمر الإلهي للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالإعراض عنهم، والصبر في تبليغ الرسالة وإنذارهم، وانتظار وعد اللّه، والتزام التسبيح لله وحده حين يقوم من منامه أو من مجلسه، وعقب غروب النجوم في آخر الليل، وهذا ما قررته الآيات الآتية:

1 | 2